لا تزال مواضيع الجنس والعذرية من المواضيع الحساسة في المجتمعات العربية بشكل عام، وخصوصًا في المجتمع التونسيّ الذي ما يزال يعلّق اهتمامًا خاصًا على تلك القضايا ويربطها بشرف العائلة وسمعة أفرادها.
فقد رسخ في المخيلة الشعبية في تونس منذ عهود غابرة تصور للشرف والتعفف عن المتعة خارج أطر العقود الشرعية للزواج وتعصب لحماية البنات من الاغتصاب. واعتبر الجنس بكل أشكاله رديفا لهذا التخوف، ومن هنا جاء التعصب المبالغ به في الحفاظ على العذرية؛ ومن هنا أيضا توارثت العائلات التونسية عادة تصفيح البنت لتجميد أجساد البنات إلى حين زواجهن.
تقوم عملية التصفيح في تونس على جرح الصبية، قبل أن تتجاوز الثالثة عشرة من العمر، سبعة جروح فوق ركبتها اليسرى أو على فخذها الأيسر، وعادة ما تتم العملية من قبل والدتها أو جدتها أو إحدى النساء اللاتي يحظين بمكانة لدى الأسرة. ثم تغمس سبع حبات من الزبيب أو القمح في الدم المراق من البنت وتردد تعويذة: “أنا حيط (جدار صلب) وولد الناس خيط”، سبع مرات.
تقوم عملية التصفيح على جرح الصبية، قبل أن تتجاوز الثالثة عشرة من العمر، سبعة جروح على فخذها الأيسر، وعادة ما تتم العملية من قبل والدتها أو جدتها. ثم تغمس سبع حبات من الزبيب أو القمح في الدم المراق من البنت وتردد تعويذة: “أنا حيط وولد الناس خيط”، سبع مرات
ويُقال أن هناك أكثر من طريقة للتصفيح ولكن جرح الفتاة هي الأكثر رواجاً في تونس، ليبقى السؤال: هل ظاهرة التصفيح مازالت موجودة في تونس اليوم؟ وهل أفضت التغيرات التي شهدها المجتمع التونسي إلى تلاشي تلك العادة واندثارها مع الزمن؟
حماية من رغبات الجسد
تعتبر العملية بمثابة العازل القوي الذي يحول دون دخول الفتاة في تجربة الجسد، أو ممارسة الجنس. فالفتاة “المصفّحة”، باعتقاد المؤمنين بالتصفيح، لا تفقد عذريتها في أي حال من الأحوال، وتظل كذلك حتى يحين موعد زواجها فيتم فك التصفيح، وتكون العروس يومئذ بكراً أمام زوجها.
تقوم عادة المرأة ذاتها التي صفحت الفتاة بعملية فك التصفيح، أو امرأة أخرى تكون قد اطلعت على طقوس فك “القفل” وطلاسم تحرير الفتاة من التصفيح لتكون جاهزة لليلة الدخلة، وهي الليلة التي تزف فيها العروس لزوجها، والتي تستأثر باهتمام بالغ في الخيال الديني والشعبي في المجتمع التونسي.
تقول بية، وهي امرأة جاوزت السبعين من عمرها ببضع سنوات، إنها تعرضت للتصفيح من قبل عائلتها التي كانت تؤمن أشد الإيمان بأن تلك العملية تقيها من كل المنزلقات، وتحفظ شرف العائلة وتصون كرامتها أمام الزوج.
تضيف بية، التي ترفض الكشف عن كامل هويتها، قائلة: “كانت هذه الظاهرة شائعة بشكل كبير في تونس، ولا سيما في الأوساط الشعبية، وتوارثتها أجيال عدة حتى أواخر الثمانينيات تقريباً حين بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً. ولكن بالنسبة لي، فإنّي لم أخضع بناتي ولا حفيداتي لتلك العادة، التي ما كنتُ لأقبل أن تمارس علي لولا أن ذلك تم عندما كنت صبية لا أفقه ما يحدث من حولي ولا في جسدي”.
أما من المنظور الديني فتبدو عادة التصفيح أمراً مكروهاً بل محرماً، بحسب أغلب رجال الدين في تونس، ذلك لأن الأمر يتم عادة وسط طقوس أقرب إلى الشعوذة والدجل
تكشف بية لرصيف 22 أن “المجتمع التونسي لا يزال حتى الآن يعتبر أن عذرية الفتاة أمر مقدس وأن عفتها أهم من أي شيء آخر، ولكن ظاهرة التصفيح لم تعد شائعة بسبب التغيرات التي طرأت على العائلة التونسية، التي أضحت تعتبر أن تلك الجروح والدماء التي تكسو مناطق حساسة من جسم البنت ما هي إلا إهانة لها وللرباط المقدس للزواج”.
شعوذة واكتئاب
رغم أن التصفيح أضحى عادة نادرة في المجتمع التونسي، الذي تخلص شيئاً فشيئاً من قيود الشعوذة، وصار الحديث عن مواضيع الجنس داخله أمراً وارداً، فإن تلك الظاهرة لا تزال حتى الآن رائجة في أوساط قليلة، إلا أن الغالبية تنظر إليها كضرب من ضروب السحر والشعوذة وتعتبرها سبباً لحالة الاكتئاب التي تصيب الفتاة حديثة العهد بالزواج، بسبب الخوف من فشل الليلة الأولى للحياة الزوجية.
“تزوجت ابنتي منذ ثلاث سنوات ونصف، عندما كانت صبية لم تصل سن البلوغ، قمت بتصفيحها أكثر من مرة لحمايتها من الاغتصاب أو الانسياق وراء نزوات الجسد، ولكن بعد الزفاف وجدت صعوبات كبيرة مع في ممارسة المعاشرة الزوجية، وأورثها ذلك حالة من الانهيار النفسي والاكتئاب ما اضطرّها أن تلجأ إلى عيادة طبيب نفساني”.
هذه القصة روتها م. ب. ع، وهي امرأة في العقد السادس، تحدثت لرصيف22 عن ظاهرة التصفيح التي لجأت إليها لحماية ابنتها من الوقوع في ما تعتبره “خطيئة”، أي فقدان بكارتها لأي سبب من الأسباب. تضيف المرأة أنها لم تصارح أحداً بعملية التصفيح التي قامت بها، ظناً منها أنها تحمي ابنتها، ولكن يبدو أن تلك الطقوس التي تُمارس قبيل الزواج لفك التصفيح لم تكن سوى مصدر اكتئاب حاد تعرضت له البنت، كانت عواقبه وخيمة على علاقتها بزوجها.
تعتبر عملية التصفيح بمثابة العازل القوي الذي يحول دون دخول الفتاة في ممارسة الجنس قبل الزواج. فالفتاة “المصفّحة”، باعتقاد المؤمنين بالتصفيح، لا تفقد عذريتها في أي حال من الأحوال، وتظل كذلك حتى يحين موعد زواجها فيتم فك التصفيح
أخذت ظاهرة التصفيح في تونس تتلاشى بحكم التغيرات التي طرأت على المجتمع، وارتفاع نسبة التعليم وانخفاض معدلات الأمية، وأصبحت منذ سنوات بمثابة الماضي الأليم في أغلب العائلات، وقد تكون الظاهرة قد أفسحت المجال لظواهر أخرى، مثل استعمال السحر لتسهيل الزواج أو غيرها، لكن رغم ذلك، لا تزال العديد من النساء يجبرن بناتهن على عادة التصفيح، حماية لهن من منزلقات الممارسة الجنسية خارج أطار الزواج.
التصفيح والدين
أما من المنظور الديني فتبدو عادة التصفيح أمراً مكروهاً بل محرماً، بحسب أغلب رجال الدين في تونس، ذلك لأن الأمر يتم عادة وسط طقوس أقرب إلى الشعوذة والدجل والسحر، فضلاً عن أن عمر البنت عند تصفيحها لا يتجاوز الثالثة عشر وتكون في تلك الحال قاصراً.
يقول الشيخ محمد بن حمودة، وهو أستاذ في علم الشريعة وأصول الدين، إنّ ظاهرة التصفيح أقرب إلى أعمال السحر والتأثير النفسي منها إلى الأفعال الملموسة، بدليل أنها لا تفضي في العادة إلا إلى حالة من الاكتئاب نتيجة عدم الوصول إلى الغاية.
يضيف بن حمودة في حديثه لرصيف22: “توارثت بعض القبائل التونسية والعربية بوجه عام تلك الطقوس والمعتقدات، وترسخت في المخيلة الاجتماعية أن سبع حبات قمح كفيلة بحماية البنت من فقدان عذريتها، ولكن ذلك لا يعدو كونه سحراً، والسحر محرم شرعاً، فالتصفيح ليس حقيقة بقدر ما هو أعمال شعوذة قامت على أساس الوهم والتقاليد البالية”.
لا يزال المجتمع التونسي حتى الآن يعتبر أن عذرية الفتاة أمر مقدس وأن عفتها أهم من أي شيء آخر، ولكن ظاهرة التصفيح لم تعد شائعة بسبب التغيرات التي طرأت على العائلة التونسية، التي أضحت تعتبر أن تلك الجروح والدماء التي تكسو مناطق حساسة من جسم البنت ما هي إلا إهانة لجسدها
ويرى المتحدث أن “عادة التصفيح اندثرت أو في طريق الاندثار من المجتمع التونسي بعد أن انكشف أنها مجرد طلاسم لا جدوى منها”.