شهدت العلاقات السودانية- الإثيوبية تصعيداً لافتاً منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعد اجتياح الجيش السوداني لمنطقة سودانية متاخمة للحدود مع إثيوبيا كانت تحتلها ميليشيات إثيوبية لأكثر من ربع قرن.
وقد جاء التصعيد بعد هجوم لهذه الميليشيات المعروفة محلياً باسم (الشفتة) من قومية أمهرا في نوفمبر/تشرين الثاني على موقع للجيش السوداني أسفر عن مقتل ضابط برتبة رائد وأسر ضابط صف، الأمر الذي خلق حالة من الغضب وسط السودانيين بعد أن تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي صورة العسكري السوداني الأسير محمولاً في سيارة ومحاطاً بأفراد من الميليشيا الإثيوبية سيئة السمعة وسط المزارعين السودانيين وسكان المنطقة الحدودية مع إثيوبيا.
الغريب في التصعيد هو حدوثه بعد شهر عسل طويل بين الخرطوم وأديس أبابا استمر لعقدين من الزمان، وتقارب في المواقف في عدد من القضايا آخرها سد النهضة.
فبالرغم من اجتياح عصابات الشفتة لمنطقة الفشقة السودانية منذ منتصف التسعينيات استغلالاً لضعف موقف الخرطوم بعد محاولة الاغتيال الفاشلة للرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في أديس أبابا، إلّا أن العلاقات السياسية بين البلدين لم تتعرض لتصعيد بسبب احتلال منطقة الفشقة (إذ كان الإثيوبيون يقولون إنه ليس نزاعاً بين دولتين، ويعترفون بأيلولة المنطقة للسودان)، ربما بسبب التوازنات السياسية حينها التي جعلت السودان في مواجهة عسكرية مباشرة مع إريتريا والمعارضة السودانية التي انطلقت من أسمرا.
كما أن العلاقات بين الخرطوم وجيرانها المصريين والأوغنديين، إضافة إلى حرب الجنوب داخلياً، كانت في أسوأ حالاتها. الأمر الذي جعل نظام البشير يتغاضى عن الانتهاكات الإثيوبية في الفشقة وطرد سكانها ودخول الجيش الإثيوبي إليها بدباباته ومدرعاته.
شهر العسل السوداني- الإثيوبي استمر حتى بعد الإطاحة بالبشير ونظامه، حيث جاءت الثورة برئيس وزراء يرتبط بصلات ممتازة مع القادة الإثيوبيين بحكم عمله في المنظمات الدولية والإقليمية وإقامته في إثيوبيا لفترة طويلة.
بالإضافة إلى دخول إثيوبيا ممثلة في رئيس وزرائها آبي أحمد كوسيط رئيسي بجانب الاتحاد الإفريقي بين المدنيين والعسكريين بعد مجزرة فض الاعتصام والأزمة السياسية الداخلية في السودان في العام 2019.
وقد جعل الاتفاق السياسي بين المكونين المدني والعسكري في السودان من آبي أحمد شخصية لامعة ومحبوبة وسط المدنيين السودانيين. لكن التطورات اللاحقة قلبت هذه الشعبية والودّ الذي اختص السودانيين وقيادتهم للرجل إلى النقيض تماماً. ويبدو أن هذا الأمر يحدث داخل إثيوبيا نفسها. حيث يواجه آبي أحمد احتجاجات داخلية متقطعة من قومية أروميا، وتمرداً عسكرياً من قومية التغراي شمالي البلاد.
تاريخياً تميزت العلاقة بين قادة السودان وإثيوبيا بالتنافس والتمدد العسكري لكل بلد على حساب الآخر في فترات الضعف. فمملكة مروي (أو كوش) التي ازدهرت في القرن الثالث قبل الميلاد وازدهرت صناعياً وعسكرياً في شمال وشرق السودان وقاومت محاولات الغزو من قمبيز ملك الفرس، مروراً بالبطالمة – الرومانيين والآشوريين، يشير مؤرخون إلى أن نهايتها بعد اضمحلالها في القرن الرابع الميلادي وتحوّل ملوكها إلى المسيحية كانت على يد مملكة أكسوم الإثيوبية التي توغّل ملكها عيزانا في مناطق شرق السودان وشنّ حملات أسهمت في إضعاف المملكة التي كانت في أواخر أيامها.
أيضاً شهد التاريخ القريب حروباً سودانية- إثيوبية وصلت لمرحلة الغزو العسكري، حيث شهدت فترة حكم المهدية في السودان في أواخر القرن التاسع عشر تصعيداً عسكرياً كبيراً بين ملك قومية أمهرا وقادة المهدية وصل إلى مرحلة قتل جيش المهدية في العام 1889 للملك يوحنا الرابع وإرسال رأسه لعاصمة البلاد أم درمان وقتها. تبعتها حروب متواصلة استمرت حتى وقوع السودان تحت الاحتلال الإنجليزي. وفي التاريخ المعاصر كان السودان وإثيوبيا الشيوعية بقيادة منقستو هيلا مريام في حالة عداء وتنافس أسفر عن دعم حكومتي البلدين للمعارضة المسلحة في البلد الآخر، وانتهت بدخول قوات جبهة تحرير التغراي إلى العاصمة أديس ابابا مدعومة عسكرياً ولوجستياً من الحكومة السودانية مطلع التسعينيات، ليفرّ منقستو إلى زيمبابوي التي يعيش فيها لاجئاً حتى اليوم. كما كانت إثيوبيا حتى وقت قريب المنافس الأكثر احتمالاً في العقيدة العسكرية والأمنية لضباط الجيش والأمن في السودان.
قصدت من السرد التاريخي أعلاه توضيح حالة التنافس الاستراتيجي بين البلدين، والذي يصل أحياناً إلى مرحلة الحرب المباشرة، وأحياناً أخرى الحرب بالوكالة عن طريق دعم المعارضة، أو عن طريق استخدام الميليشيات كما في الحالة الإثيوبية.
ومثل هذا التنافس له أمثلة في دول كثيرة في جميع قارات العالم. لكن احتمالات أن يتطوّر هذا التنافس إلى حرب مباشرة أو غير مباشرة تحدث عندما تكون الحسابات السياسية الداخلية معقدة في أحد البلدين أو كليهما. وفي الوقت الحالي فإن الحسابات السياسية لكلا الطرفين معقدة، ففي الحالة الإثيوبية تعتبر قومية أمهرا الأقوى عسكرياً وتنظيمياً لمساندة آبي أحمد في حربه ضد المتمردين في إقليم تغراي.
وهو ينتمي إلى هذه القومية من جهة والدته ومتزوج منها ويدين بالمسيحية عكس الغالبية العظمى من أهله (أورمو) من جهة والده. وقد ساندته القومية عن طريق جيشها الإقليمي وميليشياتها في الحرب التي دارت قبل شهرين في إقليم تغراي وانتشرت مزاعم بارتكاب مقاتلي هذه القومية لانتهاكات في إقليم تغراي من قتل وحرق واغتصاب.
أما في الحالة السودانية فالقيادة العسكرية تواجَه شعبياً بحالة من الغضب المكتوم بعد تورطها المخجل في مجزرة فض الاعتصام، ومحاولاتها المتكررة في أي فرصة سانحة لإحراز أهداف في مرمى شركائها في السلطة من المدنيين عن طريق الإيعاز بقدرتهم على إدارة شؤون البلاد وفشل المدنيين في المقابل، دليل على رغبة العسكريين الذين يمثلهم ثنائي البرهان- حميدتي في إزاحة المدنيين عن السلطة اقتداءً بالنموذج المصري.
ويعتبر الدخول في حرب ترفع أسهم العسكر والجيش أفضل الطرق لتحسين صورة القيادة العسكرية في رأي البرهان. وقد جاء التصعيد الأخير كهدية من السماء له، خاصة إذا علمنا حالة انعدام الودّ بين القيادات العسكرية الحالية في السودان وبين آبي أحمد وحكومته منذ أيام فض الاعتصام والوساطة الإثيوبية المسنودة من الشعب السوداني وسياسييه المدنيين.
فبالنسبة للبرهان ستكون الحرب بمثابة شرعية له يمكن أن يقول فيها إنه “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
الجديد في الموقف الرسمي الإثيوبي أيضاً حديثه هذه الأيام عن دخول السودان لأراض إثيوبية، وحديثه أيضاً عن اتفاق 1972 الذي يلزم الجانبين بالوصول “لاتفاق ودي” حول منطقة الفشقة. وهو موقف مختلف من اللهجة المهادنة التي تميز بها القادة الإثيوبيون في السابق عند الحديث عن منطقة الفشقة، التي كانوا يقولون إنه ليس هناك خلال حول تبعيتها للسودان.
وربما كان سبب هذا التصعيد في اللهجة الرسمية الإثيوبية الرد القوي وغير المتوقع من الجيش السوداني باستعادته المنطقة في فترة قصيرة وطرد المستوطنين والميليشيات منها بعد مناوشات ومعارك قصيرة. وهذا الموقف يمكن تفسيره أيضاً في سياق السيطرة المتنامية لقيادات من قومية أمهرا في الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا بعد الإطاحة بكثير من قيادات الحكومة من قومية تغراي. ومعروف للمراقبين الأطماع التاريخية لقومية أمهرا في مناطق شرق السودان.
عند الحديث عن القدرات العسكرية للبلدين يمكن القول إن الكفة في المجمل تميل لصالح السودان، نظراً لتمرس قواته المسلحة في الأعمال العسكرية والحروب المستمرة التي أجبرت جيشه على التزود بمختلف أنواع الأسلحة وحتى التصنيع محلياً. ويصل تعداد الجيش السوداني حالياً 104 آلاف جندي بالقوات المسلحة، في الوقت الذي يصل تعداد الجيش الفيدرالي الإثيوبي إلى 162 ألف جندي. لكن السودان يخصّص ميزانية للقوات العسكرية تقدر بـ2.4 مليار دولار، بينما تخصّص إثيوبيا 350 مليون دولار فقط. ويملك السودان 190 طائرة حربية، أما إثيوبيا فلديها 86 طائرة، وللسودان 690 دبابة و400 مدرعة، في مقابل 400 دبابة و114 مدرعة لإثيوبيا. ولا تملك إثيوبيا أي سفينة حربية، ولدى السودان 18 سفينة حربية.
اللافت في التصعيد العسكري بين البلدين أن قوات الدعم السريع، وهي ميليشيا (لسخرية القدر) بدأت كفرقة تتبع لقوات حرس الحدود، تجنّبت إدخال نفسها في الصراع الدائر بين الجيشين. حيث راجت أنباء عن رفض مؤسس هذه القوات، العضو في مجلس السيادة محمد حمدان (حميدتي)، المشاركة بلواء ضمن القوات التي تم نشرها في منطقة الفشقة. وبينما تحدّث البعض عن أن سبب إبعاد الرجل لقواته عن المشاركة بحجّة عدم استعدادها حالياً هو استثماراته في إثيوبيا. إلّا أن الراجح هو أن حميدتي يخشى أن يكون سحب قواته للقتال في الشرق فخاً يُراد به إخلاء العاصمة الخرطوم من قواته التي تعزز من موقفه السياسي داخل التحالف الذي يحكم البلاد حالياً.
الشيء الآخر اللافت في التصعيد الأخير أن الشعب السوداني وقف بقوة مع قواته المسلحة في استعادتها لأراض سودانية كانت محتلّة لربع قرن، بالرغم من اختلاف الغالبية العظمى من السودانيين مع قيادة الجيش الحالية وغضبهم من محاولاتها سرقة الثورة التي واجه السودانيون فيها لأشهر آلة البشير القمعية في ظل صمت البعض من قادة الجيش واحتقار أو تواطؤ البعض الآخر. فالسودانيون بالرغم من علاقتهم الطيبة مع الإثيوبيين (الذين يعيش ما لا يقل عن ثلاثة ملايين منهم في السودان) وحبهم لشعب إثيوبيا، إلّا أن احتلال أراض سودانية والانتهاكات التي تمارسها عصابات الشفتة في شرق البلاد لسنوات طويلة يثير حفيظتهم ويوحدهم مع قواتهم المسلحة في أي مواجهة محتملة.
خاتمة القول إن آخر ما يتمناه العقلاء في البلدين في هذه الأيام الدخول في حرب لا يُعرف مداها، خاصة مع الاحتجاجات في أروميا والتمرد الداخلي الذي يواجه آبي أحمد من قومية تغراي، والأزمة الاقتصادية والسياسية التي تواجه السودان حالياً. لكن يبدو أن الحسابات السياسية الداخلية (الضيقة) للطرفين هي المسيطرة حالياً. وبالنسبة للسودان كدولة وشعب، فإن استعادة أراضيه في منطقة الفشقة تعتبر كسباً استراتيجياً طال انتظاره. حتى ولو كان في الأمر تعزيزاً لسلطة العسكريين بقيادة عبدالفتاح البرهان.
بينما تنظر أديس أبابا إلى الأمر من زاوية قومية أمهرا، التي يبدو أن نجمها سيسطع من جديد بعد سيطرة لقومية التغراي استمرت لما يقارب الثلاثة عقود. وسيكون الأمر كارثياً لو قادت الحسابات السياسية الضيقة الطرفين لحرب واسعة النطاق.