“القديم ينهار والجديد لم يولد بعد وفي الأثناء تكثر الوحوش الضارية”
مقولة للمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي يمكن أن توصّف المشهد العام التونسي
تعيش البلاد على وقع أزمة متعدّدة الأبعاد، ولا نبالغ بالقول إنّها الأخطر منذ الثورة، وذلك استناداً لعدّة معطيات ومؤشّرات.
فلئن كانت كلّ “شتاءات تونس” ساخنة، منذ يناير/كانون الثاني 2011، حيث تحوّل الاحتجاج الشعبي الدوري طقساً سنوياً للتذكير بمطالب الشباب المنتفض “شغل حرية كرامة وطنية”، فإن شتاء هذه السنة يبدو مختلفاً بالنظر لعدّة معطيات، على غرار ارتدادات جائحة فيروس كورونا المستجدّ اجتماعياً واقتصادياً بارتفاع معدلات البطالة وتراجع نسبة النموّ، علاوة على حالة اللااستقرار السياسي منذ انتخابات 6 أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي أفرزت مشهداً برلمانياً فسيفسائياً ومتشظّياً، حَالَ دون وجود أغلبية حاكمة صريحة، فعجزت حركة النهضة باعتبارها الحزب الأول عن تمرير حكومة “الحبيب الجملي” المقترحة، في يناير/كانون الثاني 2020، برلمانياً، وهو ما أفقدها المبادرة السياسية بمقتضى المادة 89 من الدستور التونسي؛ إذ ينصّ الفصل المذكور على تكليف رئيس الجمهورية للشخصية “الأقدر”.
حكومة إلياس الفخفاخ (اختيار رئيس الجمهورية) هي الأخرى لم تعمّر طويلاً بعد مرورها برلمانياً بقوّة الأمر الواقع (نتيجة مخاوف الكتل النيابية من حل البرلمان بسقوط الحكومة المقترحة)، حيث سقطت في شهر يونيو/حزيران 2020، بعد فضيحة فساد وتضارب مصالح تعلّقت برئيسها، لتعود المبادرة من جديد لقصر قرطاج، بتكليف هشام المشيشي بتشكيل حكومة كفاءات من خارج الأحزاب.
3 تشكيلات حكومية مرّت على البرلمان التونسي في غضون 9 أشهر، وهو ما يؤكد حجم الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، مع صعود لافت للحركات الشعبوية، إذ يتصدّر الحزب الدستوري الحرّ نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية، حسب أحدث استطلاعات الرأي، وهو حزب محسوب على النظام القديم وجناحه اليميني المتطرّف، وتتزعّمه عبير موسى، التي بنت مشروعها السياسي على شيطنة الثورة والمنظومة السياسية التي أفرزتها، باللعب على الوتر النوستالجي لجزء وازن من الجماهير إزاء فترة حكم بن علي.
أمّا في نوايا التصويت للرئاسية فيتصدّر الرئيس قيس سعيد كل الاستطلاعات، وبفارق كبير على منافسيه، وهو ما يعكس المزاج الانتخابي للتونسي الذي فقد الثقة في المنظومة الحزبية والنظام السياسي (ديمقراطية نيابية تمثيلية ونظام شبه برلماني تتوزّع فيه السلطة على 3 مراكز: برلمان، حكومة، رئاسة جمهورية)، اللذين فشلا في تلبية المطالب الاجتماعية التي كانت محرّك الثورة التونسية، حيث عجزت النخب السياسية التونسية عن معالجة المطلبية الاجتماعية والاقتصادية (خاصة في المناطق الداخلية)، أو حتّى وضعها كأولوية لتعيد النخب الحاكمة استنساخ نموذج الحكم المركزي الذي كبّل تونس منذ الاستقلال، الأمر الذي ولّد نوعاً من “الاختناق الديمقراطي”، والتوصيف هنا لمجموعة الأزمات الدولية crisis group في آخر تقاريرها حول تونس.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها شهد البرلمان التونسي بداية الأسبوع تبادلاً للعنف الجسدي بين نوّاب كتلة ائتلاف الكرامة (يميني) ونواب الكتلة الديمقراطية (تتكوّن من حركة الشعب القومية وحزب التيار الديمقراطي اليساري الاجتماعي)، على خلفية مداخلة للنائب محمّد العفاس (ائتلاف الكرامة)، انتقد فيها التعاطي الليبرالي مع ظاهرة “المرأة” في تونس، وهو ما تم اعتباره خرقاً للدستور وضرباً لمدنية الدولة وإهانة للمرأة.
هذا المشهد “العنيف ” الذي يؤكّد غياب منطق الحوار بين الفرقاء السياسيين في تونس، هو أيضاً يشي بعودة الاستقطابات الثنائية الهوياتية، بعيداً عن مشاغل الشارع والتحرّكات الاحتجاجية التي تزداد زخماً من يوم لآخر.
النظام البرلماني على المحكّ
مع حالة البطالة السياسية التي تعيشها البلاد، وصعوبة “الحوكمة “، ووضع اجتماعي متفجّر لا يمكن التنبؤ بمآلاته تولّدت دينامية لدى النخبة في تونس، لتشخيص الوضع، حيث ذهب البعض إلى التسليم بضرورة تغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي لتجميع السلطات في مركز واحد، في حين اعتبر رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي في حوار تلفزي أن الخلل لا يكمن في النظام السياسي، بل في النظام الانتخابي (نظام أفضل البقايا)، وهو نظام يعتبر الغنوشي أنّه قد وُضع خصّيصاً ضدّ حركة النهضة سنة 2011، بقصد التقليص من تمثيليتها النيابية.
رئيس الجمهورية.. غموض الموقف
أمام هذا الوضع المعقّد في تونس يبقى السؤال الأهم:
ما موقف رئيس الجمهورية؟
سؤال على بساطته اللغوية إلا أنه يبقى سؤالاً صعباً على المستوى السياسي، بالنظر لغموض موقف ساكن قرطاج، الذي التزم الصمت منذ بداية الاحتجاجات، قبل أن يتكلّم في لقاء جمعه برئيس الحكومة هشام المشيشي بعبارات فضفاضة، واتّهامات بصيغة المبني للمجهول، لأطراف ومجموعات تريد العبث بالدولة والتآمر على الأمن القومي، فبحسب أغلب المراقبين فإنّ قيس سعيد من أكبر المستفيدين من هذا الوضع المرتبك، سواء بقصد منه أو عن غير قصد، فالأزمة التي تعيشها تونس اليوم أو ما سمّاها المفكر الإيطالي غرامشي “الأزمة العضوية”، حيث الأزمة متعدّدة الأبعاد مؤسّساتياً واجتماعياً واقتصادياً، تفسح ولا شك المجال أمام القائد لتجاوز النظام السياسي عبر الدور التحكيمي، من خلال اللحظة القيصرية بحسب نفس المفكّر.
فهذه النظرية الغرامشية تتواءم بشكل كامل مع الوضعية السياسية التونسية، حيث جزء من النخب ومن الشعب ينادون رئيس الجمهورية بالتدخّل، في إطار دور تحكيمي بتغيير النظام السياسي، لكن تبقى المعادلة في مدى احترام سعيّد للدستور الذي أقسم على حمايته.
الحوار الوطني أو تفعيل الفصل 80 من الدستور التونسي؟
إذا كان هناك إجماع حول تشخيص الوضع العام المعقّد في تونس، كما أسلفنا بالشرح، فإنّ هناك اختلافاً حول الحلول للخروج من الأزمة، بين من يطالب بتفعيل الفصل 80 من الدستور التونسي، حيث يمكن بمقتضاه لرئيس الجهورية في حالة “خطر داهم” مهدّد لكيان البلاد، اتّخاذ تدابير تحتّمها تلك الحالة الاستثنائية، وبين من يطالب الرئيس بالتدخل عبر تجميع الفرقاء السياسيين والفاعلين في إطار حوار وطني يُفضي إلى توافقات تُخرج البلاد من أزمتها بشكل توافقي، وفي هذا الإطار تَقدَّم الاتّحاد التونسي للشغل (المنظمة النقابية الأكبر في تونس) بمقترح تضمَّن عديداً من النقاط، من بينها تغيير النظام السياسي والقانون الانتخابي، وهو مقترح مازال في انتظار تفاعل واضح من رئيس الجمهورية، خاصة أنه يرفض الحوار مع مَن وصفهم بـ”الفاسدين”، دون أن يحدِّدهم.
وأبدت عديد من الأطراف السياسية احترازها حول مقترح تفعيل الفصل 80، وذلك لانتفاء وجود الخطر الداهم الذي يمثّل أساس فلسفة تفعيل الفصل المذكور، علاوة على غياب المحكمة الدستورية التي يفرض النصّ الدستوري “إعلامها” في هذه الحالة، وهو ما يمكن أن يمثّل خرقاً للدستور، وبداية للانقلاب على المؤسسات، حيث نادى المختصّ في القانون الدستوري، الصادق بلعيد، في تصريح أثار الجدل في حوار على إذاعة موزاييك إف إم المحلّية، إلى تعليق العمل بالدستور إلى حين مراجعته، كما دعا الوزير السابق محمّد عبو، مؤسّس حزب التيار الديمقراطي، رئيسَ الجمهورية إلى نشر الوحدات العسكرية في الولايات، ووضع بعض السياسيين تحت الإقامة الجبرية.
ختاماً، يمكن أن نلخّص بأن الثورة التونسية قد عجزت بشكل واضح عن ترجمة الشعارات الاجتماعية التي قامت عليها إلى واقع ملموس، وهو ما جعل المسار الديمقراطي هشّاً ومهدّداً، لكن من الإنصاف الإشارة إلى دور النخب التونسية التي نجحت خلال عقد من الزمن في إدارة الأزمات بشكل عقلاني، وهو ما جنّب تونس مصير باقي تجارب الربيع العربي، فتمكّنت تونس من تنظيم ستّة استحقاقات انتخابية، استوفت كل شروط النزاهة والشفافية، وحقّقت أكثر من تداول سلمي على السلطة؛ سنوات 2011، 2014 و2019 لتستجيب لمعيار صامويل هنتنغتون، الذي يعتبر أن ترسيخ الديمقراطية هو رهين بمرور تناوبين على السلطة على الأقل، بعد الانتخابات الحرّة الأولى، فيحسب للأنموذج التونسي رغم نقاط ضعفه، أنهّ سفّه كل المعتقدات الدغمائية التي تقول باستحالة “دمقرطة” الدول العربية، ولو بحدودها الدنيا في ضمان الحرّيات وشفافية الانتخابات والتعايش بين الإسلاميين والعلمانيين…
فالمخاض الذي تعيشه تونس اليوم، وإن كان كما أكد كرين برينتون في كتابه “تشريح الثورة” أمراً طبيعياً في سيرورة الثورات في إطار الجدلية بين الثورة والثورة المضادة، فإنّه سيكون اختباراً حقيقياً للمسار الديمقراطي والنموذج التونسي، عمّا إذا كان شكلياً ورقياً عاجزاً على الصمود أمام الهزّات الداخلية والخارجية، أم أن الديمقراطية في تونس كما عرّفها المفكر مالك بن نبي هي تجاوز لصناديق الانتخابات وشكلانية التداول السلمي على السلطة، نحو الشعور الديمقراطي والثقافة الراسخة في نفسية المجتمع بتحصينه من جهة ضد النوستالجيا للديكتاتورية، ومن جهة أخرى ضد السلطوية وعودة الاستبداد.