هنا الدماء تسيل لا تدري لمَ سالت، وهذه الضحية على الأرض تسأل بأي ذنب قتلت، والأم ثكلى تضرب على صدرها من لوعتها ومُصابها، والأب فقد ابنه الوحيد في حادث لا يستحق التضحية، وهذا الجاني الذي أضاع مستقبله عندما غرز السكين بصاحبه ولم يبال بالعواقب، وأمه يُفجعها فعل ابنها وتتحرق خوفاً عليه من مصير مُحتَم.. حادث يثير السخط والأسى، ويطرح تساؤلات.. كيف وصل بنا الحال إلى هذه الحوادث المروعة؟، والإجابة أن الدولة هي التي صنعت القاتل وقتلت المقتول.
حادثٌ أليم وقع بمحافظة المنوفية في مصر ليوم التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2019، شِجار طلاب مراهقين أسفر عن قتل أحدهم للآخر بسِكِّين، لِيُخرِجَ لنا المشهد قاتلٌ جاهل دون سن العشرين تأثر بمشاهد القتل والبلطجة في الدراما والسينما؛ ومقتولٌ لا حول له ولا قوة أُخِذ على غفلة منه، وما كان يدري أن الحياة بهذا القِصر.
إن الحياة الاجتماعية بمصر قد طرأ عليها الكثير من المدخلات والسلوكيات جديدة العهد بها، فالساحة الاجتماعية هي الأكثر حساسية للمتغيرات سواء السياسية أو الاقتصادية أو الإعلامية، فالصراعات السياسية وتدني الأحوال الاقتصادية ورداءة الرسائل الإعلامية؛ كلها تؤدي إلى الجرائم والأمراض الاجتماعية، حتى تتفاقم وتطفح على سطح هذا المجتمع معلنة عن التغيرات الجذرية التي نالت منه.
جرائم الإعلام في حق المجتمع
إن للإعلام دوراً في ترسيخ قيم المجتمع وعاداته، والحفاظ على هويته وثقافته، وهو ما تلاشى في الإعلام المصري منذ فترة تتعدى عشر سنوات، أصبح مفتقراً لمهامه وجاهلاً لمسؤوليته الاجتماعية تجاه هذا المجتمع، فلا عيب أن تتصدر مشاهد درامية للقتل والبلطجة داخل الحواري المصرية، ولا عيب أن تبرز شخصية البلطجي على أنه بطل يُقتدى به، وأن تُصدِر التافهين والفارغين من الفكر والقضية على أنهم مناضلون، ولا ضير أن تخرج على الناس ببرامج ترفيهية تُسفه من قيم المجتمع وعاداته، ولا مشكلة أن نخفض صوت الدين ونضعه في برامج مملة تكذب على الدين وتُـتَفه من دوره في حياتنا؛ ويكفي أن نعرف عنه أن شرب الخمر حرام وأكل الخنزير ممنوع!
ولا مانع أن نفكك ترابط الأسرة -التي هي اللبنة الأولى للمجتمع- وأن نسفه من الزواج والحياة الأسرية، ومن مسؤوليات الأمومة وواجبات التربية، ودعوة المرأة إلى الانطلاق والتحرر كيف تشاء فلا رقيب عليها ولا حسيب، ولا ضير أن نُصدِر مشاهد العلاقات غير الشرعية في الدراما كأنها جزء أصيل من المجتمع لا تلقى نفوراً أو إعراضاً، وأن ننتج برامج المرأة التي تدعوها إلى ما يخالف مبادئ مجتمعها ودينها بدعوى الحرية المختلقة، وأنها لا تتعدى كونها جسداً يتابع أحدث صيحات الموضة ومساحيق التجميل؛ في خطابٍ يخلو من أدوار المرأة الفعالة والحقيقية في المجتمعات.
فلا يخفى عليكم حادث الطفلة التي توفيت منذ وقت قريب؛ جراء تعذيبٍ نالته في بيت جدتها، الذي لجأت إليه بعد انفصال الأبوين وزواج كل منهما دون تحمل مسؤولية هذه الطفلة البريئة، فهذه كلها أمراض طفحت على سطح المجتمع وما خفي كان أعظم.
السلطة السياسية شريكة في الجرائم المجتمعية
إن غاية السياسة الأساسية هي تنظيم المجتمع وتوطيد وجوده، فتطور المجتمع وتطور الأنظمة السياسية مترابطان ترابطاً جدلياً، بحيث أن تطور كل منهما ينعكس إيجابياً على الآخر والعكس بالعكس.
إنهم في الإعلام يخاطبون نفوساً أزهقها سوء الأحوال الاقتصادية؛ من تدني مستوى المعيشة وغلاء الأسعار وانتشار الفقر، وأرهقتها السلطة الغاشمة من كبت الحريات وضياع الحقوق وتَفَشِي الظلم فيها كما النار في الهشيم، ماذا يُنتظر من مواطن في دولة تنتهج القتل سياسة للقمع والاعتقال سياسة للتأديب في غياب سيادة القانون!
وهو ما يجعل مراهقاً يسير حاملاً أداة قتل؛ ولا يخشى أن يغرزها في أحشاء من ليس على هواه في قمة الفوضى والعبثية.
إن هذا كله نتاج طبخة فاسدة، بها كثير من المعطيات والمسببات ليخرج هذا المشهد العبثي، إننا جميعاً ضحايا لنظام فاسد في جميع القطاعات والمجالات؛ يدفع بأبناء المجتمع دفعاً إلى التفكك والتمرد على القيم والمبادئ، وانتهاج سلوكيات هي أقرب للحيوانية منها إلى الآدمية، يثير الغرائز والأحقاد ويستفز مشاعر الجهلاء والضعفاء والفقراء في المجتمع، فينفصل الإنسان عن ذاته ثم يتمرد على أسرته ثم يخرج على مجتمعه بجريمة أو فعل مناف للأخلاق أو ينتج شخصية بها من العُقَـد النفسية ما بها، فهي خلطة عفنة ويزيد عفنها يوماً بعد يوم.