يتساءل كثير من المتابعين للشأن المصري: ما الذي يغيظ نظام الحكم في مصر من فيديوهات الفنان المقاول محمد علي؟ ما الجديد في هذه الفيديوهات؟ اتهام النظام بالفساد؟ سبّ «سيسي» وشتمه وتحقيره؟ لا يوجد أي «اختراع» في هذه الفيديوهات يستفز النظام لهذه الدرجة.
إن اتهام النظام المصري بالفساد أمر لا يؤثر فيه، وهي اتهامات تعوّد عليها المسؤولون، وهو فعل يتكرر يوميا مئات المرات منذ عشرات السنين، وقد ترددت هذه الاتهامات على ألسنة أشخاص أهم بكثير من هذا الرجل، فلماذا تشنّج النظام ضد هذا الشخص بالذات؟
كما أن سبّ «سيسي» أمر يقوم به ملايين المصريين آناء الليل وأطراف النهار داخل مصر وخارجها، فما سر هذا التحفز؟
والحقيقة أن هذا الكلام صحيح، ولكن ذلك لا ينفي أن هناك فروقا بين حالة هذا المقاول، وبين الحالات الأخرى التي كشفت الفساد، أو هاجمت النظام ورأسه، وبين الشتامين للنظام ورأسه في كل مكان.. نعم.. هناك فروق!
لذلك.. لا بد من محاولة فهم ما يحدث الآن، ولا بد من الإجابة عن سؤال: «ما الذي يغيظهم؟».
الأمر الأول: لغة البسطاء
لعل أهم ما يميز فيديوهات محمد علي أن لغتها شديدة البساطة، بل تصل في بعض الأحيان إلى ما هو أدنى من البساطة، وهي لا تخلو من بعض بهارات التطاول، والمحسّنات البديعية للسب والقذف، وهو أمر يشفي الغليل، وفي الوقت نفسه يصل إلى جموع كبيرة من المصريين؛ لم يتمكن أي جهاز إعلامي «معارض» من الوصول لهم!
محمد علي يتحدث مباشرة مع جمهور «توفيق عكاشة»، هذا الجمهور الذي نساه المثقفون والمعارضون والسياسيون
محمد علي يتحدث مباشرة مع جمهور «توفيق عكاشة»، هذا الجمهور الذي نساه المثقفون والمعارضون والسياسيون.. ولم يتذكره إلا بعض الأذرع الإعلامية لأجهزة التخابر (لفترة محددة، ثم نسوه مرة أخرى).
هذا الجمهور بطبيعته موال للدولة، يصدق أجهزتها، وحين وصل للحظة الضجر، ولحظة الكفر بالدولة وأكاذيبها.. لم يجد من يرسل له رسالة واضحة، بلغة بسيطة.. هذا ما قام به هذا الشاب!
هذا الجمهور يعاني من مرارات الحياة في مصر، ولا يجد من الإعلام الرسمي إلا التجاهل، وأحيانا تحقير احتياجاته، وازدراء آماله، والتعالي على آلامه.
هذا الجمهور الذي يمثل غالبية المصريين.. تلقف تلك الفيديوهات بشغف.. وصدق كل ما فيها.. وأصبح في انتظار المزيد.. وهذا أمر يغيظ النظام بالتأكيد.
الأمر الثاني: الوقائع المحددة
في مصر.. لا بأس أن تتحدث عن الفساد والظلم في المطلق، أما أن تتحدث عن الفساد بوقائع محددة، بأشخاص بعينهم، فذلك يستفز النظام!
ما يغيظ الجيش هو ما يفعله هذا المقاول، أي أن تتحدث عن أماكن محددة، بتواريخ واضحة، بأرقام معلنة، مع ذكر الأشخاص المتورطين، وإظهار أن ما يذاع في التلفاز هو عكس الحقيقة تماما
بإمكانك أن تقول إن الجيش فاسد، وإن جنرالات الجيش قد أكلوا مصر كلها، وأن أموال البلاد في كروش اللواءات، كل ذلك يمكن للنظام أن يتعامل معه… أما ما يغيظه فهو ما يفعله هذا المقاول، أي أن تتحدث عن أماكن محددة، بتواريخ واضحة، بأرقام معلنة، مع ذكر الأشخاص المتورطين، وإظهار أن ما يذاع في التلفاز هو عكس الحقيقة تماما.
لا يغيظ النظام أن تتحدث عن مرض الفساد.. بل يغيظه أن تضع إصبعك على موضع المرض بالتحديد، أو أن تنشر نتائج التحاليل المجهرية على الملأ!
الأمر الثالث: انسداد طرق المواجهة
لا يملك النظام لمواجهة هذا الشاب سوى طريقين.. الطريق الأسلم هو تجاهل الاتهامات.. وبالتالي سيظل النظام في موقف ضعف، وستزداد الاتهامات بالحق والباطل، وستكبر الكارثة، وقد تنفجر في أي لحظة، خصوصا لو تحققت بعض العوامل المساعدة (حادث مأساوي للفقراء، حريق مستشفى، أو انقلاب قطار.. أو ما شابه).
سيظل النظام في موقف ضعف، وستزداد الاتهامات بالحق والباطل، وستكبر الكارثة، وقد تنفجر في أي لحظة، خصوصا لو تحققت بعض العوامل المساعدة
أما الطريق الأصعب.. فهو أن يردّ النظام على هذه الاتهامات، وهو تصرف (لو حدث) سيكون في غاية الغباء؛ لأن التهم كلها ثابتة، وهي جرائم حقيقية، والشعب كله يعلم أن ما ذكره محمد علي ليس أكثر من فتات فتات الفساد، وأن حجم الفساد الذي ترعاه المؤسسة العسكرية لا يمكن تخيله أو تصوره، وأن فساد «سيسي» وعائلته أمر معروف من الحياة بالضرورة!
(ملحوظة: أثناء كتابة هذه المقالة اختار السيد «سيسي» أن يرد، فانخفض بمقام رئاسة الجمهورية.. وأثبت جميع التهم.. وما زالت توابع القصة مستمرة).
الأمر الرابع: طبيعة الرسائل الموجهة
صحيح أن تلك الفيديوهات بدأت بوقائع فساد، وأسئلة تنتظر إجابات، ولكنها تطورت إلى أمر أخطر من ذلك بكثير (أمر يغيظ النظام بشكل لا مثيل له)!
لقد أصبحت هناك رسائل واضحة في هذه الفيديوهات.. رسائل للجيش، ورسائل للشرطة، ورسائل لآحاد الناس، ورسائل لسيسي شخصيا ودائرة المنتفعين به، وهذه الرسائل مزعجة للنظام، خصوصا حين يكون نظاما بهذه الهشاشة والضعف.
الرسائل تقول للشعب ولمؤسسات الدولة.. اتفقوا على التخلص من الديكتاتور، وقاوموه، بل إنها تتجه إلى وضع سيناريوهات محددة لتلك المقاومة
إن الرسائل تقول للشعب ولمؤسسات الدولة.. اتفقوا على التخلص من الديكتاتور، وقاوموه، بل إنها تتجه إلى وضع سيناريوهات محددة لتلك المقاومة، ولا تستغرب إذا أصبحت هناك توقيتات لأفعال محددة.. إنه التطور الطبيعي الواضح لهذه الفيديوهات.
أخيرا.. وردني على بريدي الخاص أسئلة كثيرة بسبب مقالة الأسبوع الماضي.. وهي في المجمل سؤالان.. الأول هل هناك شخص أو جهة خلف السيد محمد علي؟
والإجابة: احتمال غير مستبعد.. وفي رأيي الشخصي إذا كانت هناك جهة داخل النظام تدعم هذا الشاب، فلا شك أن هذه الجهة تتفق مع غالبية المصريين في ضرورة إسقاط العميل الساكن في قصر الاتحادية.
والسؤال الثاني: كيف نتعامل مع هذه الفيديوهات؟
وهذا قرار الشعب.. وليس قرار أي أحد آخر!
العقل الجمعي للأمة هو من سيحدد كيف يتعامل مع أي دعوة من أي شخص أو جهة لتغيير الوضع الحالي.
كلي ثقة في شعبنا العظيم الذي تعلم الكثير خلال السنوات الماضية!