أصبحت الحرب الباردة المتمثلة في تجنيد الجواسيس أخطر أنواع الحروب في القرن الحالي ، ولا تزال الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا هما أقوى مدرستين في ذلك الصراع ، وفي هذا السياق رصدت شبكة “سي ان ان” الأمريكية مجموعة من الروس المجندين من قبل واشنطن للتخابر وكيفية تجنيدهم على يد الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية.
يعد الروسي أليكساندر زابوروجسكي أبرز من اصطادتهم واشنطن خلال الـ 20 عاما الماضية، فبعد سنوات من انشقاقه عن روسيا وإعادة توطينه في واشنطن استدعي زابوروجسكي إلى روسيا حيث اتهمته السلطات بالخيانة، فيما حذرته وكالة الاستخبارات الأمريكية من الذهاب إلا أنه أصر على العودة لبلاده في عام 2001 ليودع في السجن على الفور بسبب علاقته المشبوهة مع الغرب.
حاول العديد من كبار مسؤولي الاستخبارات إثبات عدم تورط زابوروجسكي الذي أعطى معلومات سرية قيمة للولايات المتحد أدت في النهاية لى القبض على عميل من مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي أي” والجاسوس الروسي روبرت هانسن إلا أنه سجن في سيبيريا بتهمة الخيانة، لكنه أطلق سراحه في نهاية المطاف عام 2010، وأعيد إلى واشنطن في صفقة لتبادل الجواسيس مع روسيا شملت سيرجي سكريبال الذي ظهر اسمه مؤخرا بعد تسممه في بريطانيا.
أدين سكريبال وهو كولونيل سابق في جهاز المخابرات السوفيتية بالتجسس لصالح بريطانيا ، وفي المقابل أفرجت أمريكا ضمن صفقة التبادل عن 10 عملاء روس متهمين بتشكيل شبكة تجسس روسية سرية في أمريكا.
وضع سكريبال تحت المراقبة وظل مكان تواجده سريا لكنه كان يتحرك تحت رقابة روسية محكمة واختفى اسمه منذ ذلك التاريخ (2010) ، لكنه ظهر ثانيا في مارس الماضي بعد الإعلان عن تسممه بغاز الأعصاب في مدينة ساليزبري الإنجليزية، وهي الحادثة التي سببت توترا في العلاقات بين موسكو والغرب حيث تتهم بريطانيا الروس بتسميم سكريبال وابنته بينما تنفي موسكو تماما تلك الأنباء.
ويظل تجنيد الطاقات البشرية سلاح الولايات المتحدة الأول في الحرب الباردة، كما أن مراقبة الأجهزة الاستخباراتية للأجانب الذين يعملون بأمريكا أمر لا مفر منه بالنسبة لواشنطن، ظهر ذلك مؤخرا في قضية الجاسوسة الروسية المفترضة ماريا بوتينا صاحبة الـ29 عاما.
وتقول بوتينا المتهمة بالتخابر لصالح الروس أنها غير مذنبة وأنها تعمل كوكيل لشركة أجنبية في الولايات المتحدة، ويشير محاميها إلى أنها لن تقبل باتفاقا مع المدعين الأمريكيين إذا تم اعتبارها جاسوسة أو عميلة روسية، لكن المنشقون مثل زابوروجسكي وسكريبال يواجهون الخطر الأكبر ودائما ما يكونوا عرضة لحوادث الاغتيال أو ما شابه.
وبحسب “سي ان ان”، فإن البرنامج السري للأجهزة الاستخباراتية الأمريكية يرتكز على إعادة توطين المنشقين الذي يواجهون مخاطر كالقتل في بلادهم بسبب الخيانة لينضموا إلى الخدمة في واشنطن، لكن تلك المخاطر لا تتوقف بوصولهم لأراضي الولايات المتحدة ففي أغلب الأحيان تلاحقهم بلدانهم السابقة ، حيث أصبحت تلك التحديات في حروب الجواسيس أمرا شاقا وأكثر صرامة مع تطور وسائل المراقبة الأمنية ووسائل الإعلام الاجتماعية مما يصعب من عملية حماية هؤلاء المنشقين.
ويقول جو أوجستين الضابط المتقاعد في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والذي أدار برنامج الهاربين لمدة 3 سنوات إنه على مدى عقود عقود أدلى المنشقون بمعلومات بمثابة “جواهر” للسلطات الأمريكية، ولكن حماية هؤلاء الأجانب يعد تحدي أكبر لواشنطن من تجنيدهم.
ولقت أوجستين إلى أن حماية المنشقين وعائلاتهم وتوفير أموالا لهم أمرا لم تستطع واشنطن توفيره لكافة العملاء المجندين ، وفي الوقت الذي يسمح فيه برنامج وكالة الاستخبارات المركزية بتوطين 100 شخص سنويا إن كان ذلك في مصلحة الأمن القومي أو لتعزيز مهمة استخباراتية ، لم تستطتع الوكالة الاستفادة من هذا الرقم الضخم الذي يعد عبئا عليها.
يعيش مئات الجواسيس في البلاد بهويات جديدة خوفا من ملاحقة دولهم لهم ، حيث تبين قضية تسمم العميل سكريبال في بريطانيا أن روسيا لا تنسى المنشقين وستظل تطاردهم، وهو ما يدفع واشنطن لحماية كبار العملاء الذين خدموها لسنوات لكنها فشلت في حماية كثيرين منهم ، وتحذر الأجهزة الأمنية عملائها من الاتصال بمواطنيهم وتوفر لهم أسماءا جديدة ودروسا في اللغة وبعض الأموال ومكان للإقامة، وفي بعض الأحيان تساعدهم على الدراسة، حيث قدمت الوكالة الاستخباراتية الأمريكية سجلات مزيفة لأحد العملاء ليدرس في إحدى الكليات بأمريكا كما دبرت طلاقا سريا لإحدى عميلاتها ، لكن كل ذلك لم يغني بعض العائلات عن وطنهم المنشقين عنه حيث عاد أطفال عدد كبير من الجواسيس لبلادهم بعد فشلهم في التكيف مع الحياة في الولايات المتحدة.
وفي سابقة فريدة من نوعها، رفع جاسوس سابق دعوى على وكالة الاستخبارات الأمريكية بسبب عدم توفير أموال كافية لأسرته ووصلت القضية إلى المحكمة العليا، ولم تستطيع واشنطن توفير وظائف مهمة لعملائها المنشقين عن الدول الأخرى وغالبا ما يكون لهم تطلعات تصل في كثير من الأحيان إلى “الجشع”، وتشير “سي ان ان” إلى أنه في إحدى المرات عمل أحد المنشقين وكان مسؤولا استخباراتيا رفيع المستوى كبائع لتوصيل البيتزا عقب إعادة توطينه في الولايات المتحدة.
ويعد الأمر الذي يصعب المهمة على اجهزة الاستخبارات الأمريكية أن روسيا ليست الدولة الوحيدة المهتمة بملاحقة المنشقين الذين يعيشون في الولايات المتحدة، حيث قامت أمريكا بتوطين عددا كبيرا من الأفراد من الصين وإيران وكوريا الشمالية وغيرها من الدول التي تتعقبهم فهم من وجهة نظرهم “خونة” بلا شك، لذلك تقوم واشنطن دائما بتقييم المخاوف الأمنية المتعلقة بحماية حياة بهؤلاء الجواسيس.
وبينما نجحت أمريكا في توطين المئات، انتهت حياة كثيرين منهم بمأساة حقيقية اختفى معظمهم في ظروف مريبة، مثل ما حدث في قضية ريزارد كوكلينكسي وهو مسؤول سابق في الجيش البولندي قدم لأمريكا آلاف الوثائق كشفت عن معلومات حساسة حول برنامج الأسلحة النووية السوفيتية وذلك في 1981، عاش البولندي بعدها كبطل في ولاية فلوريدا حيث كان خبيرا بالأسلحة السوفيتية وأفاد الاستخبارات الأمريكية بكثير من المعلومات.
وفي 1994، ورغم الحماية الأمنية الكبيرة التي وفرت له، توفي نجلي كوكلينكسي في ظروف غامضة ، حيث غرق ألأول قبالة سواحل فلوريدا وتوفي الثاني في حادث سيارة احترقت ، ولم تكتشف الأجهزة الأمريكية سبب تلك الواقعة إلا أن أصابع الاتهام أشارت إلى المخابرات الروسية لكن دون دليل ملموس يسمح بالتحقيق مع موسكو.