عاد اسم مدير جهاز المخابرات المصرية العامة السابق اللواء الراحل عمر سليمان للظهور من جديد على الساحة المصرية بعد انتشار أخبار تفيد بأن رجاله الذين تم الإطاحة بهم من الجهاز هم الذين يقفون وراء فيديوهات محمد علي.
وربما يمكن تلخيص المشهد الحادث في مصر منذ ثورة 25 يناير 2011 وحتى الآن بجملة واحدة: الصراع بين المخابرات الحربية بقيادة عبدالفتاح السيسي، والمخابرات العامة بقيادة عمر سليمان.
ومن هنا، لا يمكن تفسير ما يحدث في مصر الآن منذ ظهور مقاول الجيش والفنان محمد علي قبل أسابيع، دون الرجوع إلى الوراء عدة سنوات، وتحديداً قبيل نهاية عام 2010.
بداية الصراع: توريث جمال الحكم
كانت هناك خلافات أساسية بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عندما كان بمنصب مدير المخابرات الحربية، وبين المخابرات العامة ومديرها عمر سليمان حول كيفية إدارة البلاد.
قصة هذه الخلافات تعود إلى نهايات عام 2010، حيث رأى السيسي أن المخابرات العامة لها اليد الطولى في كل الملفات الداخلية والخارجية، وهو ما كان يزعجه كثيراً.
في المقابل، كان عمر سليمان أحد أهم الرجال المقربين من مبارك، لديه شكوك عن «دور خفي» يلعبه في الترتيب للانقلاب على مبارك بذريعة رفض الشارع الرغبة في توريث الحكم لابنه جمال، والرفض الخارجي للفكرة أيضاً، وذلك بحسب ما ذكره مصدر سابق بالمخابرات العامة المصرية لـ «عربي بوست».
هذا المخطط الداخلي للانقلاب على مبارك بقيادة السيسي، كان هو الأهم والأكثر وضوحاً بالنسبة لعمر سليمان، وبدأ قبل ثورة يناير بعدة أشهر بحجة رفض الجيش توريث الحكم لجمال مبارك الذي لا يملك خلفية عسكرية.
بالإضافة إلى هذا، كانت هناك شكوك عند عمر سليمان في صدق نوايا السيسي تجاه الدولة، ومحاولاته الدؤوبة للانفراد بملف القضية الفلسطينية وملف «حماس » وكذلك سد النهضة الإثيوبي.
وتأكدت لسليمان هذه الشكوك حينما حاول السيسي تعيين نجله محمود في المخابرات العامة، ليكون عيناً له داخل هذا الجهاز الهام، ولكن سليمان رفض ذلك بشكل قاطع.
تتطابق هذه المعلومات مع ما ذكره الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل في تصريحات له عقب ثورة يناير 2011.
هيكل تحدث عن الدور الأساسي للسيسي قبل الثورة ومحاولاته التأثير على قادة المجلس العسكري لتنحي مبارك عن السلطة.
وأوضح هيكل أن السيسي كان يخطط بالتعاون مع محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع آنذاك، وعدد محدود من قادة المجلس العسكري، للتحرك بعد الحديث عن توريث الأخير نجله جمال حكم مصر.
وتحدث هيكل عن لقاء جمعه مع السيسي يوم 8 مارس 2011، بعد اتصال من عباس كامل يطلب منه القدوم للقاء شخصية عسكرية في مركز القيادة العامة.
ووفق ما قاله هيكل، فقد استمر اللقاء حوالي ساعة ونصف، وكانت المفاجأة التي صرح بها أن السيسي قال له: «أبلغت المشير طنطاوي في يوليو 2010 بشعوري بالقلق من تحرك الشارع المصري نتيجة الحديث عن توريث الحكم لجمال مبارك، ونقل هذه القلاقل إلى بعض قيادات المجلس وأن الجيش إذا تم استدعاؤه سوف يتحرك».
وكان مبارك وقتها قد قرر عدم الترشح للانتخابات الرئاسية التي كانت ستعقد منتصف عام 2011، وأخبر بذلك المجلس العسكري، فتأكد الأمر لقيادات المجلس فتم اتخاذ قرار التحرك.
الخوف على استثمارات الجيش كانت سبباً لدعم حراك يناير
وكانت حركة الاحتجاجات بالشارع بدأت تزداد منذ 2008، مع خضوع سياسات مبارك لتأثير نجله جمال الذي كوَّن لنفسه بطانة من رجال الأعمال رأت قيادة الجيش أنها ستسحب الاستثمارات الاقتصادية من بين يديه.
وفي الفترة بين عامَي 2008 إلى 2010، توغل رجال الأعمال في السياسة، وازداد قربهم من جمال مبارك وظهر نموذج لجنة السياسات، برئاسة أحمد عز رجل الأعمال المعروف. هنا أحس الجيش بالخطر يقترب من إمبراطوريته المتنامية.
وربما يدعم هذه المعلومات الاستحواذ الغريب للقوات المسلحة على كافة القطاعات الاقتصادية وتهميش دور رجال الاعمال تماماً عقب هيمنة الجنرال عبدالفتاح السيسي على المشهد فور الإطاحة بأول رئيس عقب ثورة يناير الدكتور محمد مرسي.
وبالعودة إلى أجواء ثورة يناير، اشتم اللواء عمر سليمان ما يخطط له عبدالفتاح السياسي ومن حوله من قادة المجلس العسكري، فنصح الرئيس مبارك أن يتحدث عن موضوع التوريث ولو حتى إعلامياً لينفي ما يتردد في هذا الشأن لامتصاص الغضب، ولكن يبدو أن مبارك خلع نفسه قبل أن تخلعه الثورة، بحسب تعبير المصدر السيادي.
جاء يوم 25 يناير 2011، واستغل السيسي الحراك الثوري ضد مبارك وبدأ يتقرب من بعض رموزها.
هزيمة عمر سليمان في فترة ما بعد مبارك
قبل تنحِّي الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، تولى عمر سليمان منصب نائب الرئيس وأدار الموقف بين القوى السياسية في الشارع وبين الجيش.
هنا بلغ الصراع ذروته بين السيسي وسليمان، وكان ما سيحدد الغلبة في هذا الصراع هو عدة عوامل أهمها الوضع السياسي الداخلي عقب ثورة يناير والظروف الإقليمية والدولية.
ولم يغِب عمر سليمان عن المشهد عقب التنحي، فقبيل تسليم السلطة لرئيس مدني بعد عام من حكم المجلس العسكري، استعد عمر سليمان والفريق أحمد شفيق لخوض الانتخابات الرئاسية.
السبب في ذلك هو أن بعض قيادات المجلس العسكري كانت ترفض خروج الجيش من المشهد السياسي، ولا تريد التفريط في موروث ضباط يوليو، وهو ألا تخرج إدارة مصر عن قيادة عسكرية في الأساس، وأن تلك القيادة يجب أن تكون من جيل «أكتوبر» على الأقل.
لذلك تم الدفع بالفريق أحمد شفيق واللواء عمر سليمان لخوض الانتخابات الرئاسية عام 2012. لكن في ذلك الوقت لم يكن الشارع يقبل بأي وجه من النظام القديم، والقوى الدولية كانت ترفض دخول الجيش في السياسة بشكل مباشر.
وفي نفس الوقت كان السيسي وطنطاوي يرفضان ترشحهما، فقد كان هناك حساسيات تعكس الكراهية بين طنطاوي وشفيق من جهة وبين السيسي وعمر سليمان من جهة أخرى، وذلك بحسب تصريحات للواء ثروت جودة وكيل جهاز المخابرات العامة سابقاً.
اللواء ثروت جودة أكد أيضاً أن «عمر سليمان تم الغدر به وتهميشه، رغم أنه كان نائب رئيس جمهورية، حينما قرر المجلس العسكري حكم البلد وأجبروه على الجلوس في البيت، كما عرقل السيسي لعمر سليمان فرصة ترشحه للرئاسة».
وكان سليمان قد تقدم بأوراق ترشحه في اليوم الأخير من فتح باب الترشح الرسمي. إلا أن اللجنة العليا للانتخابات قررت استبعاده لاحقاً، بعدما استبعدت أكثر من 3 آلاف من نماذج التأييد التي قدمها، ليصبح عددها الإجمالي 46 ألفاً، وهو رقم أكبر من النصاب الرقمي المطلوب المحدد 30 ألفاً، لكن تبين للجنة أنه جمع هذه النماذج من 14 محافظة فقط، إذ كان المطلوب على الأقل 15 محافظة.
وقال جودة: «عرفت معلومات مؤكدة تشير إلى أنه قبل إغلاق باب الترشح بـ 6 ساعات أرسل عمر سليمان صندوقين للتوكيلات من أسيوط، لكن اللجنة العليا للانتخابات لم تقبلهما»، ليتم استبعاده تماماً من الترشح.
وفي 19 يوليو 2012، انتهى دور سليمان كلياً بعد الإعلان عن وفاته في الولايات المتحدة المتواجد بها لتلقي العلاج، وقال مساعده «حسين كمال» إنه كان بخير وإنه كان يخضع لفحوصات طبية، وإن وفاته كانت فجأة.
وحتى هذه اللحظة ما زالت حادثة وفاة عمر سليمان غامضة، والفاعل مازال مجهولاً بالنسبة للمصريين.
المهمة الجديدة: الإطاحة برجال عمر سليمان بعد وصول السيسي للحكم
مضى عام 2012، حتى جاء السيسي في يوليو 2013، وانقلب على الرئيس محمد مرسي ثم تولى حكم البلاد رسمياً عام 2014.
عندما أصبح السيسي رئيساً، أدرك بوضوح أنه لن يحكم قبضته على البلاد إلا بالسيطرة التامة على جهاز المخابرات العامة، خصوصاً أن مَن يديره هم أتباع عمر سليمان والذين يحملون نفس العقلية.
في تلك الفترة، كان الصراع مستمراً بين السيسي ورجال عمر سليمان داخل الجهاز.
وهو ما ظهر من خلال تسريبات خرجت من مكتب السيسي أذاعتها قنوات المعارضة المصرية في الخارج.
أبرز هذه التسريبات كشفت كيف سيطرت المخابرات الحربية على الإعلام المصري، وحاولت إظهار النظام في ذلك الوقت بالتفريط في أرض مصر. إذ كان من بين تل التسريبات حوار دار بين وزير الخارجية المصري سامح شكرى وبين مسؤول إسرائيلي يراجعه في تفاصيل بنود اتفاقية تيران وصنافير.
وكذلك العديد من التسجيلات التي اعتبرتها قيادات المخابرات العامة تهديداً للأمن القومي المصري بما يخالف ثوابت عقيدة الجيش المصري.
بدأ السيسي في تصفية جهاز المخابرات العامة، فعين أولاً رجل المخابرات الحربية محمد فريد التهامي رئيساً للجهاز، وعين نجله محمود مديراً في المكتب الفني لمدير المخابرات العامة بعدما نقله من المخابرات الحربية.
ورغم أن هذه الوظيفة كانت أقرب إلى كونها وظيفة إدارية، لكن تعيين محمود جاء ليكون عيناً لوالده ليتمكن من جمع المعلومات عن جميع قيادات الجهاز وولائهم واتجاهاتهم وكيف يفكرون، حتى تتم بعد ذلك عملية التصفية النهائية.
بدأ محمود السيسي يزود والده بقوائم أعضاء الجهاز الذين يتوجب التخلص منهم، وبالفعل أحال السيسي عدداً كبيراً منهم إلى التقاعد.
وبحسب مصادر مطلعة، فقد كان جناح عمر سليمان وراء تسريب أدلة مقتل الطالب ريجيني، لذلك كان يجب التخلص نهائياً من أي قيادة أو حتى ضابط أو موظف صغير كان يعمل في الجهاز إبان حقبة عمر سليمان.
وبالفعل تم تعيين اللواء عباس كامل رئيساً صورياً للجهاز، حسب ما ذكرت المصادر، وتعيين نجله محمود نائباً له بعد ترقيته من رتبة رائد إلى عميد في غضون 4 سنوات، متخطياً كافة الأعراف العسكرية، ودون المرور بأي دورة تدريبية واحدة في جهاز الأمن القومي.
وكان جناح عمر سليمان الذي قاد المخابرات حتى قبل تعيين عباس كامل، يحافظ على شعرة معاوية بين المعارضين والدولة، وبذل محاولات لإيجاد تسوية سياسية تحافظ على هيمنة المؤسسات الأمنية على القرار في مصر وتمتص الاحتقان والاستقطاب من الشارع المصري، إلا أنه السيسي كان له رأي آخر في هذا الملف بحسب المصدر.
الصراع المستمر: انتخابات 2018
لكن رغم كل الإقالات التي تمت بالجهاز، كان رجال عمر سليمان في صراع مستمر، وهو ما ظهر بوضوح قبل انتخابات الرئاسة عام 2018.
وقالت مصادر لـ «عربي بوست» رفضت بالطبع الكشف ذكر اسمها «ونحتفظ باسمه لدينا- إن جهاز المخابرات العامة كان يقف وراء حملة جمع التوكيلات للفريق سامي عنان في بعض المحافظات حتى يكون هناك مرشح منافس للسيسي في انتخابات 2018، وهذا بسبب عدم رضا المخابرات العامة على العديد من قرارات السيسي التي أوصلت البلاد لتلك المرحلة».
ومع إلقاء القبض على عنان، ظهرت تسريبات حول ملف ترشح الفريق أحمد شفيق وإجباره بطريقة ما على انسحابه من سباق الترشح للرئاسة في انتخابات 2018، ثم تلفيق قضية للفريق سامي عنان حكم بالسجن عليه فيها بـ 10 سنوات.
لذلك استمرت عملية الإقالات بإشراف كامل من محمود السيسي حتى وصلت إلى 119 مسؤولاً بالجهاز، بينهم قيادات رفيعة، ووكلاء لرئيس الجهاز، بالإضافة إلى سحب الكثير من اختصاصات عمل المخابرات العامة، وتقزيم دوره لصالح المخابرات الحربية.
المشهد الأخير.. محمد علي مقاول الجيش
وذكرت مصادر عسكرية في حديثها لـ «عربي بوست» أن السيسي لا يعرف قيمة التوازن في القوى بين الأجهزة العسكرية داخل السلطة، «السيسي لديه قناعة كبيرة بأن رصيده الشعبي سوف يحميه من أي مخاطر داخلية، وهو يؤمن بمبدأ الإصرار على الرأي والانفراد به، ومن هنا خسر الجميع بسياساته الاستبدادية، الجيش والشعب، والمعارضة التي ساندته في وقت من الأوقات».
ومنذ يونيو 2014 وحتى هذه اللحظة، لم يغِب لحظة عن أذهان رجال عمر سليمان، وقيادات سابقة في المجلس العسكري التي تدين بالولاء للفريق سامي عنان المسجون حالياً، ما فعله السيسي بقادتهم، وأيضاً الفريق أحمد شفيق، وجميعهم ذوو تاريخ عسكري مشرف.
وبدأ الصراع مجدداً بين السيسي وهذه القيادات، حتى وصل إلى مرحلته الأخيرة بظهور مقاول الجيش محمد علي.
وبحسب المصادر، فإن لهذا الصراع مظاهر كثيرة طفت على السطح خلال تلك السنوات الماضية أهمها إطاحة السيسي باللواء خالد فوزي مدير المخابرات العامة السابق وأحد رجال عمر سليمان، ثم جاء بكاتم أسراره ومدير مكتبه في المخابرات الحربية عباس كامل وتعيين نجله محمود نائباً لرئيس الجهاز والذي يعد مهندس عملية التمديد لوالده في الحكم حتى عام 2034.
«كانت هذه القشة التي قصمت ظهر البعير، فخرج المقاول محمد علي وسط هذا الصراع»، بحسب المصدر.
تطابقت تلك المعلومة مع ذكره لنا مصدر عسكري آخر بأن هناك عدة أسباب تدعو هذه الأطراف للإطاحة بالسيسي، منها ما يتعلق بإدارته للقوات المسلحة، ومنها ما يتعلق بسياساته.
السبب الأول يعود إلى «كشف نواياه تجاه البلاد وإهماله قضية سد النهضة الإثيوبي، وعدم اكتراثه بهذا الملف حتى فات الأوان».
والسبب الثاني يتمثل في سحبه ملف المصالحة بين السلطة الفلسطينية وحماس من جهاز المخابرات العامة وتسليمه إلى المخابرات الحربية.
أما السبب الثالث هو إطلاق يد المخابرات الحربية في الشأن السياسي المحلي، وإحكام قبضتها على الإعلام، وإحالة ملف الإرهاب إليها أيضاً.
والرابع يتمثل فيما وصفه المصدر بـ «خنوع السيسي التام للإدارة الأمريكية بما يخدم مصالح العدو الاستراتيجي لمصر، وهو إسرائيل على حساب مصالح الدولة المصرية، تيران وصنافير نموذجاً».
وأشار المصدر إلى أن رجال المخابرات العامة المصرية وعلى رأسهم اللواء عمر سليمان «لم يكونوا على توافق دائم مع الإدارة الأمريكية في معظم القضايا المحلية والإقليمية».
ثم يأتي السبب الأخير والمتمثل في عدم مبالاته بقيادات الجيش، خاصة أعضاء المجلس العسكري السابق، الذي كان أصغر أعضائه في وقت من الأوقات، والذين تمت تصفية معظمهم تقريباً.