بينما كنت أقوم بإجراءات مغادرة أحد الفنادق المطلة على العاصمة التونسبة من على ربوة، سمعت إحدى الموظفات تقول لزميلها بلهجة تسلل اليها الكثير من الكلمات الفرنسية: “وما العيب في زمن بن علي؟ على الأقل كان الوضع أفضل بكثير وعلى مستويات عدة”.
لم أفاجأ بالمضمون، فقد سمعت مثله على ألسن عدد كبير من التونسيين في الآونة الأخيرة، لكن الجديد هو جرأة الناس. نزلت في الفندق ذاته بعيد هروب الرئيس الأسبق بن علي في يناير عام 2011، وكان لدي زميل عمل اسمه زين العابدين. وبينما أنا أناديه في إحدى المرات بصوت مرتفع، التفت موظفو الاستقبال ومواطنون تونسيون كانوا في بهو الفندق. كان ذلك الاسم يمثل كابوسا لشرائح واسعة من الناس. لكن الزمن تغير، وموازين القوى كذلك.
لم يكن التونسيون يتخيلون أن يأتي يوم يقف فيه أمام عدسات الكاميرا أربعة وعشرون شخصا من المرشحين للسكن في قصر قرطاج، في مناظرات تلفزية توسلوا خلالها قلوب الناخبين وعقولهم. ففي زمن بن علي كانت الحدود المرسومة للمتنافسين واضحة، لأن الفائز الأوحد معروف. أما الآن فالمرشحون مهما علا شأنهم، فقد ظهروا بمثابة تلاميذ يستظهرون ما حفظوه من دروس للإجابة على أسئلة الصحفيين المحاورين.
يتمتع الشعب التونسي بمستوى عالٍ من حرية الصحافة والتعبير، وهيية لا بأس بها أمام السياسيين الحاكمين. لكنه خسر الكثير في اقتصاده.
ما من مرة سألت شخصا في المقاهي والمطاعم الشعبية والأسواق، في العاصمة أو في القيروان أو سوسة أو حتى القصرين في أقصى الغرب، إلا وتكون اللازمة المكرورة هي: “لقد ضيعنا ثماني سنوات من عمرنا لم نر فيها شيئا. لقد أُفقرت الطبقة الوسطى وسُحِقَ الفقراء. لقد جنى علينا من حكمونا وكانوا من الفاسدين”.
في مدينة القيروان التاريخية يلفت نظرك صراخ رجلين يسيران وسط شارع تسلكه العربات. أحدهما حافي القدمين، والآخر يرتدي ملابس نظيفة. كلاهما فقدا عقليهما. كان سكان هذه المدينة العريقة يشتكون من تهميش نظامي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي لمحافظتهم. وكان الأمل أن تشهد إقلاعا اقتصاديا بعد بناء منطقة صناعية في ضواحي القيروان. لكن عوض ذلك تراجع مستوى العيش، وقلت أعداد السياح الذين يقصدون بيوتها وأسواقها القديمة الشبيهة بدمشق وفاس. وقالت لي مسؤولة منظمة أهلية تعني برصد التوترات الاجتماعية، إن القيروان تسجل أعلى معدلات الانتحار في عموم القطر التونسي.
جل المنتحرين كانوا قاصرين لما فر بن علي. ولما بلغوا رشدهم ووجدوا أن الآفاق مسدودة أمامهم، منهم من استهوته دعاية داعش فانتهى إنا قتيلا أو أسيرا في سورية والعراق أو في إخدى العمليات الأرهابية التي ضربت تونس مرات عدة. ومنهم من
حاول الفرار من الوطن عبر قوارب الهجرة غير النظامية. فلا يكاد يمضي يوم دون الإعلان عن انطلاق قوارب نحو جزيرة لامبيدوسا الايطالية الواقعة قبالة السواحل الشرقية التونسية.
وفي ميناء العاصمة يرابط عشرات من الرجال والأطفال.. نظرة خاطفة على مظهرهم الخارجي تكفي لتدل على أنهم في وضعية صعبة. لكنهم جميعا تتملكهم الرغبة في معانقة أمواج يتخيلون أن خلفها أرضا أوروبية تعدهم بعيش رغيد لم يجدوه في بلدهم. لكن هيهات. أثناء زيارتي سوق خضار شعبية في أريانة قرب العاصمة تونس، بلغ الغضب بأحد الشيوخ مبلغا شرع معه في إلقاء اللوم على حركة النهضة التي حمّلها مسؤولية الشبان التونسين الذين “التهمهم سمك البحر المتوسط”.
حلم الهجرة إلى الخارج يسيطر على عقول فئة عريضة من شياب تونس. والبعض منهم يفضل النوم على القيام بأعمال “حاطة” بقيمته. أثناء حديثي مع صحفية تونسية اشتكت لي من أخ لها يرفض بيع الخضار والفواكه في سوق كبيرة توجد بضاحية بن عروس جنوبي العاصمة. تقول الصحفية إن شقيقها يفكر في ان يفعل مثل أخيه الذي يعيش في إحدى الدول العربية الغنية. ولما سألتها كيف وصل ذلك الأخ إلى تلك الدولة، ابتسمت وقالت”لقد تزوج سيدة تونسية تكبره سنا. وهي تعمل، بينما يبقى هو وحيدا في البيت”.
أخيرا عاد أخوها المغترب إلى تونس في “إجازة طويلة من زوجته”. لديه الآن سيارة يتجول بها ومبالغ مالية من زوجته، تكفيه للذهاب إلى المقهى وارتداء ملابس جيدة. لكن هذه الإعلامية تتبرم من تصرفات الشقيق العاطل، وتتساءل كيف لرجل أن يرضى بأن ينام ويعتمد في “مصروفه” على أخته التي تخرج إلى العمل صباحا، ولا تعود إلى البيت إلا لما يحل الظلام.
شهد المجتمع التونسي في الآونة الأخيرة زيادة هامة في عدد النساء اللائي يقتحمن سوق العمل. ويمكن القول إن الملايين من الرجال تعيلهم نساء. لهذا ليس من العجب في شيء إن كان عددهن في قوائم الناخبين يفوق بكثير نظراءهن من الذكور. فحسب أرقام رسمية تجاوز عدد المسجلات في لوائح الناخبين أربعة ملايين امرأة، مقابل ثلاثة ملايين ونيِّف من الرجال.
كنت خارجا لتوي من الفندق في شارع محمد الخامس الشهير بالعاصمة التونسية، ولفت انتباهي شابان يبدو من سنهما أنهما غير متزوجين. الفتاة التي جعلت على رأسها منديلا يغطي كامل شعرها، كانت تضع كفها في كف الشاب وهما يقطعان الطريق. على ذراع الشاب وشمٌ على شاكلة تنين، من النوع المنتشر في هذه الأيام لدي الشبان بالعواصم الغربية وعبر جل بلاد المعمور.
لا يهتم أحد لأمرهما، لكن ما الذي يخفيه المستقبل لعلاقتهما. فلو سارت الأمور حسب المجرى الظاهر، ربما ستصبح هذه الفتاة قريبا مساوية للرجل في الميراث.
فقبل أن يموت الرئيس الباجي قايد السبسي كانت بوادر واضحة تشير إلى أن جزءا من السلطة والمجتمع المدني في تونس، يدفعون باتجاه إبطال العمل بقوانين الميراث الشرعي، واستبدالها بتشريعات وضعية تساوي المرأة بالرجل. أثار هذا الاقتراح حفيظة شرائح محافظة وأخرى تستعمل الدين في السياسة. لكن هذا لم يحل دون أن تعد بتحقيقه عبير موسي، المرشحة الرئاسية المحسوبة على بقايا مجموعات الرئيس زين العابدين بن علي.
فلقد اقتحمت هذه الشابة المجال السياسي بقوة، واعدة بأن تخرج تونس من واقعها الموروث عن العروبة والإسلام، لتعانق ما تصفها بالقيم الكونية.
وهي ليست وحيدة في هذا الاتجاه، فأحزاب اليسار والتجمعات اللبرالية على حد سواء، تريد بوضوح فصل الدين عن السياسة، والتنصيص في الدستور على أن الدولة علمانية الهوية.
كيف سيتصدى الرئيس المقبل لمثل هذه التحديات وكيف سيوفق بين متطلبات مشهد اجتماعي متوتر، وواقع اقتصادي متدهور، وحلبة سياسية تزاوج بين نظام برلماني وآخر رئاسي مقصوص الجناحين؟.
لا أحد يدري.
وسط فوضى السيارات رأيت الشابين يبتعدان متشابكي الكفين والذراعين، وأنا لا أدري كيف سيوفقان مستقبلا بين متطلبات حجابها والوشم الذي يحمله الرجل في ذراعه.